في عام شهد أزمات مناخية وإنسانية كارثية ومتفاقمة في العديد من مناطق العالم، تأثر نسيج المجتمع الدولي، وعاشت الدبلوماسية العالمية لحظات حرجة غاب فيها الأمل في بعض الأحيان.
ثم لمحنا بصيص نور في نهاية نفق أزمة المناخ خلال أهم مفاوضات مناخية أجريت حتى الآن. ففي وقت اشتدت فيه حاجة العالم الماسة إلى وحدة الجهود والعمل، ارتقت رئاسة دولة الإمارات لمؤتمر«كوب28» إلى مستوى التحدي، محققة نتائج باهرة.
فالمؤتمر المناخي الدولي أقيم في خضم التقلبات الجيوسياسية المتواصلة في المنطقة، وفي نهاية العام الأعلى حرارة في التاريخ المسجل، مع ارتفاع حرارة الكوكب بـ 1.2 درجة مئوية عن مستويات ما قبل الصناعة. واتفقت الأطراف الـ 198 المشاركة في COP28 الذي استضافته دولة الإمارات بجدارة واقتدار على حلول عملية لتحقيق التقدم والتصحيح الجذري لمسار أنظمة الطاقة التي نعتمدها وإعادة هيكلة بنية التمويل المناخي العالمي.
وأعلن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، «حفظه الله»، عن أبرز مبادرات التمويل المناخي خاصة للدول النامية ومجتمعات الخطوط الأمامية الأكثر تأثراً بتداعيات التغير المناخي، حيث أطلق سموه من منصة المؤتمر الأممي العالمي صندوق ألتيرا للمناخ.
ويمثل «صندوق ألتيرا» خطوة نوعية نحو سد ثغرة التمويل المناخي، خصوصاً في الجنوب العالمي. ويهدف ذلك الصندوق الذي تبلغ قيمته 30 مليار دولار إلى حشد ما لا يقل عن 250 مليار دولار أخرى من الاستثمارات بحلول عام 2030، مما يجسد التزام دولة الإمارات بتحفيز الاستثمارات في أهم المناطق لتحول الطاقة العالمي.
وليس ذلك أمراً بسيطاً. إذ عجزت مؤتمرات المناخ التي تعقدها الأمم المتحدة سنوياً منذ عام 1995 عن التوصل إلى اتفاق حول توجهات مستقبل التمويل المناخي والوقود التقليدي. وترددت الدول في مناقشة معاهدات ملزمة قانونياً لتوضيح العلاقة بين العمل المناخي والوقود الأحفوري، مدفوعة بمصالحها الوطنية. فحتى انعقاد نسخة المؤتمر في مدينة جلاسكو قبل عامين، نادراً ما ذكرت مفاوضات المؤتمر هذا الموضوع.
لكن اتفاق الإمارات التاريخي كسر ذلك النمط، ثم تخطاه عبر إدراج لغة واضحة وصريحة حول أهمية التحول بعيداً عن الوقود الأحفوري في النص الذي نتج عن المفاوضات التي أجريت خلال المؤتمر. وهو ما يحصل لأول مرة منذ ما يقارب 30 عاماً، لذا قد يشكل COP28 تحولاً نموذجياً محورياً في طريقة تعاملنا الجماعي مع أزمة المناخ.
والخلاصة المشتركة بين كل النسخ السابقة لمؤتمرات «كوب» لنجاح أي خطة مناخية هي سرعة ونطاق تنفيذها. ويجب علينا الآن مواصلة التعاون العالمي لتحويل اتفاق الإمارات إلى عمل مناخي دولي ملموس ودفع عجلة التغيير التحويلي وبناء مستقبل مرن مناخياً للجميع. ويعني ذلك تحمل مسؤولية التعهدات التي أعلنت عنها الدول في «كوب28» من حيث الالتزامات المالية والجداول الزمنية.
وقد كانت التعهدات والأهداف وصيغة الاتفاق الناتجة عن مفاوضات «كوب28» شاملة وعملية، وجسدت احتياجات الأطراف، وقدمت خطوات واضحة لكبح ارتفاع الحرارة عند 1.5 درجة مئوية، مع ضمان إشراك الجميع في الطموحات المشتركة والعمل المناخي الموحد.
وسلط مؤتمر Cop28 بدولة الإمارات الضوء على قطاعات تم التغاضي عنها سابقاً، منها الغذاء والتجارة والتعليم والطبيعة، إلى جانب قطاعات جديدة مثل الصحة. وبحث المؤتمر جانب العرض والطلب في الصناعات كثيفة الانبعاثات، مع إطلاق «ميثاق خفض انبعاثات قطاع النفط والغاز» لمعالجة مشكلات هائلة كانت منسية. وأعاد المؤتمر صياغة الحوار حول التمويل المناخي، وفتح آفاق إجراءات تخفيف حدة آثار التغير المناخي، وفعّل صندوق الخسائر والأضرار، وكل ذلك في اليوم الأول للمؤتمر.
كما استقطب المؤتمر الاهتمام بقضية حماية الصحة العامة من التأثيرات المناخية المتصاعدة، حيث دعمت أكثر من 120 دولة «إعلان COP28 بشأن المناخ والصحة» الصادر بالشراكة بين دولة الإمارات ومنظمة الصحة العالمية.
واستهدف «كوب28» شرائح واسعة، وقطاعات حيوية عديدة، لكن كما توقعنا، وكما كنا نحتاج، شكلت الطاقة المتجددة نقطة محورية مهمة. وأكد التركيز على مصادر الطاقة المتجددة خلال مؤتمر «كوب28» على مبدأ أن عالمنا لا ينتج من دون طاقة، لكن مستقبلنا لن يكون منتجاً دون طاقة نظيفة. وأجمعت الأطراف على ذلك الموقف، حيث وقعت 130 دولة على التعهد العالمي للطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة.
واستناداً إلى أبحاث الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (آيرينا)، يستهدف التعهد العالمي زيادة القدرة الإنتاجية العالمي للطاقة المتجددة 3 أضعاف إلى 11.000 جيجاوات، ومضاعفة كفاءة استهلاك الطاقة من 2 إلى 4 بالمئة بحلول عام 2030. وتقول «آيرينا» إن تحقيق تلك الأهداف بحلول نهاية العقد الحالي يمكنه إعادتنا إلى مسار 1.5 درجة مئوية.
وتزامناً مع استمرار التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة، خصوصاً في دولة الإمارات، سيزيد هذا العام، ولأول مرة، التمويل المستثمر في مصادر الطاقة المتجددة عن مثيله المستثمر في الطاقة الناتجة عن النفط. وفي ظل اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي حول تعزيز مصادر الطاقة المتجددة، أصبح بإمكاننا الذهاب إلى أبعد من ذلك في توسيع نطاق  قدرات الطاقة النظيفة من العالم المتقدم إلى العالم النامي بسرعة أكبر ويعد توسيع نطاق تبني وتطوير الحلول المتجدد أمراً مفيداً لكل الأطراف، ويصب في مصلحة العالم النامي والمناخ ومستثمري القطاع الخاص ومستقبلنا ككل.
ولتسريع ذلك التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة، يجب علينا توجيه التمويل إلى البحث والتطوير. كما يجب علينا تمكين رواد الأعمال في القطاع الخاص من العاملين في مجال الطاقة النظيفة. وعلى المستوى الأعلى، يجب علينا البناء على أسس شراكاتنا الدولية، كتلك التي تعقدها دولة الإمارات مع وكالة «آيرينا»، والتي شهدنا فوائدها المستمرة من مؤتمر «كوب» إلى آخر.
فمثلاً، منذ إطلاق «آيرينا» لمنصة تسريع تحول نظام الطاقة «إيتاف» على هامش مؤتمر «كوب26» في غلاسكو عام 2021، بدعم وتمويل رئيسي تبلغ قيمته 400 مليون دولار من صندوق أبوظبي للتنمية بدولة الإمارات، تجاوزت المنصة في مؤتمر «كوب28»، هدفها المعلن المتمثل في حشد مليار دولار من التمويل، بأربعة أضعاف. إذ وصلت التعهدات المالية لتمويل تسريع تحول نظام الطاقة في «كوب28» بدولة الإمارات إلى 4.05 مليار دولار، وذلك لتوسيع نطاق مشاريع الطاقة المتجددة التي تدعم المساهمات المحددة وطنياً في البلدان النامية، مع تحسين الوصول المتاح إلى الطاقة وأمنها، وتعزيز النمو والتنويع الاقتصاديين.

ويعد بناء إمكانات وقدرات الطاقة المتجددة أمراً بالغ الضرورة في دول الجنوب، وهو يشكل مجالاً أساسياً لتركيز مؤتمر «كوب28». وتوجد حاجة إلى استثمارات سنوية تقدر قيمتها بما يصل إلى 5 تريليونات دولار في حلول البنية التحتية للطاقة النظيفة والمتجددة بحلول عام 2030، خصوصاً في مجتمعات الخطوط الأمامية التي تواجه تداعيات التغير المناخي. وتمثل استثمارات الطاقة النظيفة في أفريقيا حالياً 2% فقط من الإجمالي، العالمي، مما يبين التفاوتات الاستثمارية العالمية الحالية بوضوح شديد.
إن تمويل تلك المشاريع يعني تسهيل الوصول إلى الطاقة. وخلال مؤتمر «كوب28»، شكل التمويل المناخي موضوعاً رئيساً. ومن مبلغ 83.3 مليار دولار الذي جرى تخصيصه للعمل المناخي في المؤتمر، تم توجيه أكثر من ثلاثة أرباعه نحو آليات التمويل المناخي.
وعندما نتأمل في تفعيل وتحقيق الهدف المعلن لصندوق الخسائر والأضرار خلال اليوم الأول من المؤتمر، نجد أن مؤتمر «كوب28» شكل نموذجاً عالمياً فريداً يحتذى به في التفاوض على تحقيق منجزات هائلة في مجال الدبلوماسية المناخية، لم يصل أي مؤتمر «كوب» سابق إلى ذلك المستوى من الإنجازات، ولا بتلك السرعة.
وبذلك المعنى، غيّر مؤتمر «كوب28» قواعد اللعبة. ومع مطالبة تعهدات المؤتمر قادة العالم بالعمل المناخي الإيجابي والمؤثر، نجح مؤتمر «كوب28» في تحقيق ذلك الهدف. لكن يبدأ الآن الاختبار الحقيقي لالتزامنا العالمي بسد ثغرتي الطاقة والانبعاثات؛ وهو اختبار سينجح العالم فيه فقط إذا ما بقينا متحدين في مواجهة الصعوبات والتحديات وتحويلها إلى فرص في كل المجالات.

د.نوال الحوسني*
*المندوب الدائم لدولة الإمارات في الوكالة الدولية للطاقة المتجددة «آيرينا»